على رغم وجود تطبيع سياسي وديبلوماسي واقتصادي بين مصر وإسرائيل منذ توقيع اتفاقية السلام بين البلدين، فإن التطبيع الشعبي والثقافي ظل مرفوضاً حتى اليوم، وتحاول إسرائيل اختراقه وترويجه بطرائق عدة لا سيما عبر شاشاتها ومنابرها الإعلامية من خلال بث أعمال فنية عربية ومصرية، يتم الاستحواذ عليها عبر القرصنة أو طرائق ملتوية غير شرعية، أو الاستعانة بوسطاء.
وأثار تداول أنباء عن إطلاق الدولة العبرية لباقة تلفزيونية تضم 27 قناة ناطقة بالعربية بينها شاشات للرياضة والسينما والدراما والأطفال والأخبار عبر القمر الاصطناعي المصري «نايل سات»، حالة من الجدل، بخاصة أنها تزامنت مع تقديم عروض مغرية لمنتجين – بعضهم يواجه عثرات مالية وإنتاجية ومتوقفين عن العمل – لشراء أرشيف الدراما المصرية الخاص، وكذلك لتنفيذ أعمال درامية تنتج حصرياً للعرض على قنوات غير مصرية.
وحذر رئيس اتحاد الإذاعة والتلفزيون السابق أسامة الشيخ من محاولات شبكات إقليمية تعتمد موازنات ضخمة لشراء أفلام ومسلسلات عربية.
وكشفت مصادر لـ «الحياة» أن هناك أطرافاً غير مصرية موجودة في السوق المصرية تتواصل مع قدامى المنتجين الذين يمتلكون رصيداً من الأعمال الدرامية والسينمائية، مقابل أموال ضخمة ويقدم هؤلاء الأشخاص أنفسهم بوصفهم «شركة توزيع» يقومون بالشراء والبيع رافضين الإفصاح عن القنوات التي ستعرض عليها هذه الأعمال الفنية».
وأضافت المصادر أن ثمة كثيراً من المنتجين المصريين متوقفون عن الإنتاج تم التواصل معهم ومنهم صفوت غطاس ومحمد فوزي ومحمد عبدالحميد وغيرهم، وطُلب منهم صناعة مسلسلات سواء اجتماعية أو كوميدية لا تتطرق إلى قضايا سياسية أو فكرية ليبثوا الطمأنينة في قلب المنتجين المصريين، على أن تقوم تلك الشركات بتمويل هذه الأعمال لتؤول ملكيتها إلى تلك الجهات المجهولة.
وترجح المصادر أن هذه الأعمال سيجري عرضها على قنوات إسرائيلية، كما ألمحت أن شبكة «بي إن» القطرية مهتمة بالإنتاج الفني، وأشارت إلى أن «الأشخاص الذين يـــحاولون شراء وتمويل إنتاج الأعمال الفنية يحملون جنسيات عربية».
وأكد المنتج المصري محمد فوزي في تصريحات لـ «الحياة» صحة الوقائع، وقال: «ثمة سماسرة وجهات مجهولة تحاول شراء الأعمال الفنية المصرية لصالح قنوات تلفزيونية خارج مصر غير معروفة المصدر». وأضاف فوزي: «لم أدخل في مفاوضات رسمية مع تلك الأطراف وبالتالي لا أعلم يقيناً حقيقتها أو انتماءها، لكن تلك الجهات طالبتني بقائمة للمسرحيات والأفلام والمسلسلات التي أنتجتها، والأعمال الجديدة التي أنوي إنتاجها، فطالبت أولاً بمعرفة الطرف المشتري، لكن الوسطاء امتنعوا عن الكشف عنها فرفضت العرض».
وكشف فوزي أن تلك الأطراف قدمت أسعاراً مغرية، مؤكداً أنه ليس المنتج الوحيد الذي تلقى تلك العروض، بل امتدت إلى شركات إنتاج أخرى كثيرة، ما يعزز الشكوك حيال تلك القنوات، مؤكداً أنه لا يعرف جنسيتها، ونوه أنه إذا جرت عملية البيع والشراء عبر منافذ شرعية والإعلان عن قنوات العرض يمكنه إعادة التفكير والبت في الأمر».
أخبار مسربة من جهات إسرائيلية
«الحياة» بحثت عن مصدر الخبر في وسائل الإعلام والصحافة الإسرائيلية، فلم يكن هناك أي إشارة له، لكن مواقع إخبارية عربية تناقلته استناداً إلى تغريدة أطلقها إيدي كوهين بتاريخ 20 أيلول (سبتمبر) الماضي، عبر حسابه الشخصي على «تويتر»، قال فيها: «في القريب العاجل سيتم بث ٢٧ قناة إضافية، باقة كاملة إسرائيلية على قمر نايل سات كلها باللغة العربية، وسيتم بث قنوات رياضية تنقل كل الدوريات العربية ومنها الدوري السعودي مجاناً وقنوات منوعة وقنوات إخبارية ذات مهنية عالية وإحترافية».
إيدي كوهين، هو محلل سياسي في شؤون الشرق الأوسط، ومعروف بقربه من دوائر الحكم وصنع القرار في إسرائيل، ومن ثم لن يطلق هذا الخبر إلا بعد موافقة الجهات الرسمية، فهو أحد الصقور في حزب الليكود ومعروف بعدائه للعرب وتحريضه ضدهم، وقد عرفه المشاهدون العرب عن قرب من خلال استضافته شبه الدائمة على شاشة «الجزيرة».
فيما اعتبر اختصاصيون أن هذا الخبر ربما يكون نوعاً من المراوغة وجس النبض لدى الجمهور العربي، لاستبيان مدى الترحيب من عدمه، وقد سبق لإسرائيل القيام بذلك خلال الفترة الماضية، عبر الترويج لبثها مباريات كأس العالم بالعربية.
وتؤكد المشاهدات أن محاولات شراء الأعمال الفنية المصرية ستلقى استجابة من قبل كثير من المنتجين المصريين الذين يواجهون أوضاعاً مأزومة وبعضهم توقف عن الإنتاج بفعل تعاظم المحاولات الاحتكارية التي تمارسها شركات بعينها في السوق المصرية، والتي تفرض أسعاراً منخفضة على المنتجين، ما أوقعهم في خسائر فادحة وألحق أضراراً بمصالحهم، ومن ثم فقد يلجأون للبيع لوسطاء أو أطراف مجهولة.
واعتبر صاحب واحدة من كبرى شركات الإنتاح المصرية (رفض الإفصاح عن اسمه) أن الترويج لشراء إسرائيل الأعمال الفنية المصري هي محض محاولة لبث الذعر في قلوب المنتجين كي لا يتجهوا لبيع أعمالهم لجهات خارجية. وأضاف لـ «الحياة» أنه يمكن تجاوز ذلك عبر الاشتراط أثناء إبرام صفقات البيع بعدم العرض عبر الشاشات الإسرائيلية تطبيقاً لقرارات المقاطعة».
تاريخ من السطو
ولم تتوقف محاولات إسرائيل عن محاولتها التطبيع الثقافي مع العرب منذ قيامها والذي بدأ مع الإذاعة الإسرائيلية التي دأبت على إذاعة أغاني أم كلثوم وغيرها من كبار المطربين العرب، كما تحرص قنواتها التلفزيونية على بث الأفلام والمسلسلات المصرية القديمة والحديثة، وبخاصة عبر القناة «33» التي سطت على كثير من الأعمال، وتتبع تلك القناة هيئة البث الإسرائيلي الحكومية، وتعرض برامج باللغات العربية والعبرية والإنكليزية، ويصل إرسالها إلى منطقة الشرق الأوسط وأوروبا.
كما أسست إسرائيل قناة إخبارية موجهة للعرب تسمى «إي 24» في تموز (يوليو) 2013، وتزامن إطلاقها مع فترة مضطربة في تاريخ البلدان العربية عقب اندلاع ثورات الربيع العربي، وجاءت في محاولة للتطبيع وتقريب وجهات النظر، عبر استغلال الأوضاع الإقليمية المضطربة والملتهبة في بعض الدول. ويتركز محتوى القناة على تجميل وجه إسرائيل وخطب ود العرب في البلدان المتأججة بالحروب، والإعلان عن علاجهم واستضافتهم للاجئين السوريين لاستقطاب الأقليات المضطهدة. إضافة إلى محاولة الزعم بأن العلاقات بين تل أبيب والدول العربية قوية تقوم على الود والتعاون ودائماً ما تضرب المثال بوجود علاقات ديبلوماسية مع مصر والأردن.
وتمول تلك القنوات وزارة الخارجية الإسرائيلية، فهناك قسم في الخارجية لـ «شؤون الشرق الأوسط» يضم فرع باسم «العرب» هو المسؤول والعقل المفكر للقناة يهتم بما يتابعه العرب من أخبار ومواد.
وقال الخبير في الشؤون الإسرائيلية أحمد فؤاد أنور لـ «الحياة» إن «إسرائيل لها محاولات عدة في هذا الاتجاه، إذ أطلقت «يديعوت أحرونوت» بالعربية وسبقها «إذاعة صوت إسرائيل» بالعربية، كما استولت على تراث إذاعة «صوت الجبل» الفلسطينية خلال حرب 1967 عند احتلالهم الضفة، وكانت تضم حوارات وأغاني وبينها تسجيلات نادرة لأم كلثوم، وشكلت تلك المواد نواة لاستقطاب الأذن العربية».
وأضاف: «في الوقت الراهن، تحول الصراع إلى الفضائيات فأطلقت قناة «اي 24» التي كانت بمثابة جس النبض، وتم تمريرها بهدوء على كونها قناة اخبارية ذات اسم محايد، لكنها في النهاية تخدم الاغراض الإسرائيلية في شكل شبه علني، وهي محاولة لاختراق الصف العربي واستقطاب الرأي العام. واعتبر إطلاق باقة القنوات الإسرائيلية بمثابة استكمال المساعي الهادفة إلى تحييد الجانب العربي ودفعه لقبول الحلول الوسط أو التطبيع المستتر».
وحول كيفية استحواذ إسرائيل على الأعمال الفنية المصرية، قال أنور: «هم اعترفوا بذلك ويحصلون عليها بطريقة «الفهلوة» عبر وسطاء من «عرب 48» ويتم البيع في شكل مستتر بخاصة أن الجانب المصري مازال مصراً على المقاطعة، وهناك حالات لا يعتد فيها بالملكية الفكرية، وبعضهم يترفع عن الملاحقة القضائية لإسرائيل بتهمة «القرصنة» بدعوى أنها نوع من التطبيع، بينما أرى ضرورة مقاضاتهم وتمكن الاستعانة بمحامٍ أجنبي والتبرع بالأموال للفلسطينيين» .